حديث (حبب إلي من دنياكم الطيب والنساء...)

أخرج النسائي في سننه عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-، أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (حُبِّبَ إلي منَ الدُّنيا، النساءُ، والطِّيبُ، وجُعِلَ قرةُ عيني في الصلاةِ)؛[١] وفي رواية أخرى: (حُبِّبَ إليَّ مِن دُنياكم النِّساءُ والطِّيبُ، وجُعِلَت قُرَّةُ عيني في الصَّلاةِ).[٢]


شرح حديث (حبب إلي من دنياكم الطيب والنساء...)

التوازن في أمور الدنيا

كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يُرغب في الاستمتاع بملذات الدنيا بما أباحه ورخّصه المولى -سبحانه- في مواطن عديدة؛ كما كان يحثّ على الزهد في الدنيا في مواطن أخرى، فكان -صلى الله عليه وسلم- يجمع بين الأمرين؛ فمرة يلبس الصوف والثياب الحسنة، ومرة يلبس الرداء المتواضع.[٣]


ومرة يأكل الرطب وطيّب الطعام من العسل والحلوى، ومرة يأكل ما تواجد في بيته من مختلف الأصناف المتواضعة؛ فكان -صلى الله عليه وسلم- يجمع بين كل ذلك ليُبين ويرشد أمته من بعده بجواز ورخصة هذه الأمور، مع عدم المبالغة والإسراف فيها.[٣]


حبّ الطيب

وفي هذا الحديث يُظهر النبي -صلى الله عليه وسلم- حبّه للطيب والتطيّب؛ فهو أدعى لانشراح الصدر، ووسع النفس، وإظهار التجمّل، وإدخال البهجة على قلب الجليس بجمال وعبق الرائحة، فكان -صلى الله عليه وسلم- لا يردّ الطيب إذا أُهدي إليه.[٤]


ويحرص عليه كلّما خرج إلى الصلاة؛ حتى كان يُعرف من ريحه -صلى الله عليه وسلم-، وقال بعض أهل العلم أنّ هذه الرائحة الزكيّة العطرة كانت مما شرّف الله -تعالى- به نبيّه، أي دون استخدام الطيب؛ ومع ذلك فقد كان يأمر به، ويكثر منه،[٥] كما كان -صلوات الله عليه- يُحب أنواع الطيب على اختلافها؛ فقد ثبت في حبّه للريحان أنّه قال: (مَن عُرِضَ عليه رَيْحانٌ فلا يَرُدُّهُ، فإنَّه خَفِيفُ المَحْمِلِ طَيِّبُ الرِّيحِ).[٦][٤]


حبّ النساء

أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنّ حبّ النساء كان مما حُبب إليه؛ أيّ مما أودعه الله -تعالى- في قلبه، ولم يكن ذلك عن اختيار منه -صلى الله عليه وسلم- أو تكلّف، ولا شك في أن ما حببه الله -تعالى- لنبيّه فيه خير ونفع وبركة؛ كما فيه من المصالح والمقاصد التي لا يعلمها إلا الله -تعالى- ورسوله؛[٧] وقد ذهب بعض أهل العلم إلى بيان سبب تحبيب المولى -سبحانه- لنبيّه الكريم -صلوات الله عليه- بالنساء؛ فقالوا:[٨]

  • لينقلن النساء عنه سائر أحواله التي تخفى على أصحابه، ولا يمكن للرجال أن يطلعوا عليه؛ فيُستحيا من ذكره من غير نسائه.
  • إنّ هذا التحبيب فيه زيادة للابتلاء في حقّه -صلى الله عليه وسلم-؛ حتى لا يكون الانشغال بما حُبب إليه عمّا كُلّف به من الدعوة والرسالة، فيكون أجره -صلى الله عليه وسلم- أعظم وأكمل.
  • إنّ تحبيب النساء إليه -صلى الله عليه وسلم- في لطف به، للتخفيف والتهوين عليه.
  • قيل إنّ في هذا التحبيب ردّاً لمزاعم المشركين واتهاماتهم له بالسحر والجنون؛ فتكون خلواته مع نسائه -صلى الله عليه وسلم- خير دليل على بشريّته وكمال طبيعته.


قرار العين بالصلاة

عدل النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد ذكره ملذات الدنيا إلى ذكر ما يتمّ به الدين والإيمان، وما تتم به الآخرة؛ فذكر -صلى الله عليه وسلم- الصلاة، ودفع بذكرها التوهم الذي قد يتخلل إلى عقول بعض الناس؛ أنّ حبّ النساء والطيب أو غيرها من المباحات؛ قد يُشغل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن العبادة والمناجاة، وهذا مردود بلا أدنى شك، إذ إنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- بيّن في كثير من المواطن وكثير من الأحاديث أنّ فرحه وراحته، وتمام معراجه كان في الصلاة.[٩]


والقرّة هنا من القرّ؛ أي الثبات والقرار، وهي كناية عن البهجة والسرور، والفوز بالبغية، والوصول للمحبوب؛ وإضافتها للعين كان لبيان أنّ المحب لا يسعد، ولا يستقرّ قلبه، ولا تسكن روحه؛ إلا برؤية محبوبه، وكذلك الصلاة بالنسبة للنبي -صلى الله عليه وسلم-؛ وليس أدلّ على ذلك من قوله: (يا بلالُ أقمِ الصلاةَ، أرِحْنا بها).[١٠][٩]


لطائف أشار إليه الحديث

أشار هذا الحديث النبوي الشريف إلى عدد من اللطائف التي أوردها بعض أهل العلم في شروحاتهم؛ ومن ذلك:

  • الترغيب في الزواج، والتحصين، ونبذ التبتل.[١١]
  • استخدام لفظ "دنياكم" في دلالة واضحة على التجرّد من الدنيا، والإيذان بأنّ -صلى الله عليه وسلم- غير متمسكٍ بها، راغباً إلى ما عند الله -تعالى-، زاهداً بما فيها.[١٢]

المراجع

  1. رواه النسائي، في السنن الكبرى، عن أنس بن مالك، الصفحة أو الرقم:3939، قال الألباني حسن صحيح.
  2. رواه ابن الملقن، في البدر المنير، عن أنس بن مالك، الصفحة أو الرقم:501، إسناده صحيح.
  3. ^ أ ب ابن الملقن، الإعلام بفوائد عمدة الأحكام، صفحة 132، جزء 8. بتصرّف.
  4. ^ أ ب ابن عثيمين، شرح رياض الصالحين، صفحة 560-561، جزء 6. بتصرّف.
  5. أبو بكر ابن العربي، المسالك في شرح موطأ مالك، صفحة 308، جزء 2. بتصرّف.
  6. رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم:2253، صحيح.
  7. عبد الحق الدهلوي، لمعات التنقيح في شرح مشكاة المصابيح، صفحة 480، جزء 8. بتصرّف.
  8. محمد بن علي بن آدم الأثيوبي، ذخيرة العقبى في شرح المجتبى، صفحة 171، جزء 28. بتصرّف.
  9. ^ أ ب عبد الحق الدهلوي، لمعات التنقيح في شرح مشكاة المصابيح، صفحة 479-480، جزء 8. بتصرّف.
  10. رواه أبو داود، في سنن أبي داود، عن سالم بن أبي جعد، الصفحة أو الرقم:4985، صححه الألباني.
  11. حسن بن علي الفيومي، فتح القريب المجيب على الترغيب والترهيب، صفحة 598، جزء 8. بتصرّف.
  12. محمد بن علي بن آدم الأثيوبي، ذخيرة العقبى في شرح المجتبى، صفحة 171، جزء 28. بتصرّف.