حديث حوت العنبر

أخرج مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أنّه قال: (بَعَثَنَا رَسولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ- وَأَمَّرَ عَلَيْنَا أَبَا عُبَيْدَةَ، نَتَلَقَّى عِيرًا لِقُرَيْشٍ، وَزَوَّدَنَا جِرَابًا مِن تَمْرٍ لَمْ يَجِدْ لَنَا غَيْرَهُ، فَكانَ أَبُو عُبَيْدَةَ يُعْطِينَا تَمْرَةً تَمْرَةً، قالَ: فَقُلتُ: كيفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ بهَا؟ قالَ: نَمَصُّهَا كما يَمَصُّ الصَّبِيُّ، ثُمَّ نَشْرَبُ عَلَيْهَا مِنَ المَاءِ، فَتَكْفِينَا يَومَنَا إلى اللَّيْلِ، وَكُنَّا نَضْرِبُ بعِصِيِّنَا الخَبَطَ، ثُمَّ نَبُلُّهُ بالمَاءِ فَنَأْكُلُهُ).[١]


ويكمل جابر -رضي الله عنه- فيقول: (وَانْطَلَقْنَا علَى سَاحِلِ البَحْرِ، فَرُفِعَ لَنَا علَى سَاحِلِ البَحْرِ كَهَيْئَةِ الكَثِيبِ الضَّخْمِ، فأتَيْنَاهُ فَإِذَا هي دَابَّةٌ تُدْعَى العَنْبَرَ، قالَ: قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَيْتَةٌ، ثُمَّ قالَ: لَا، بَلْ نَحْنُ رُسُلُ رَسولِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ-، وفي سَبيلِ اللهِ، وَقَدِ اضْطُرِرْتُمْ، فَكُلُوا، قالَ: فأقَمْنَا عليه شَهْرًا وَنَحْنُ ثَلَاثُ مِائَةٍ حتَّى سَمِنَّا، قالَ: وَلقَدْ رَأَيْتُنَا نَغْتَرِفُ مِن وَقْبِ عَيْنِهِ بالقِلَالِ الدُّهْنَ، وَنَقْتَطِعُ منه الفِدَرَ كَالثَّوْرِ -أَوْ كَقَدْرِ الثَّوْرِ- فَلقَدْ أَخَذَ مِنَّا أَبُو عُبَيْدَةَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فأقْعَدَهُمْ في وَقْبِ عَيْنِهِ، وَأَخَذَ ضِلَعًا مِن أَضْلَاعِهِ فأقَامَهَا).[١]


ثم قال: (ثُمَّ رَحَلَ أَعْظَمَ بَعِيرٍ معنَا، فَمَرَّ مِن تَحْتِهَا، وَتَزَوَّدْنَا مِن لَحْمِهِ وَشَائِقَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا المَدِينَةَ أَتَيْنَا رَسولَ اللهِ، فَذَكَرْنَا ذلكَ له، فَقالَ: هو رِزْقٌ أَخْرَجَهُ اللَّهُ لَكُمْ، فَهلْ معكُمْ مِن لَحْمِهِ شَيءٌ فَتُطْعِمُونَا؟ قالَ: فأرْسَلْنَا إلى رَسولِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ- منه فأكَلَهُ).[١]


شرح حديث حوت العنبر

معاني كلمات الحديث

قبل البدء بشرح الحديث النبوي؛ يجدر التنبيه إلى بعض معاني الكلمات الواردة فيه، والتي تحتاج إلى بيانٍ وتوضيح؛ وذلك على النحو الآتي:[٢]

  • (الخَبَطَ): ورق الشجر؛ حيث كانوا يضربون ورق الشجر بعصيّهم، ثم يبلونه بالماء ويأكلونه من شدّة الجوع.
  • (الكَثِيبِ الضَّخْمِ): تلّ أو مرتفع من الرّمال.
  • (وَقْبِ عَيْنِهِ): نُقرة عينيه.
  • (وَنَقْتَطِعُ منه الفِدَرَ): أيّ اللحم.
  • (وَتَزَوَّدْنَا مِن لَحْمِهِ وَشَائِقَ): أيّ ملّحوا لحم هذا الحوت، وجفّفوه، واتّخذوه زاداً لهم.


مناسبة الحديث

بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- سرّية من أصحابه بقيادة أبي عبيدة بن الجراح -رضي الله عنه- إلى البحر؛ وقد سمّى بعض أهل العلم هذه السريّة بسرية الخبط، أو سرية سيف البحر، ويقال إنّ ذلك كان في زمن الهدنة بعد صلح الحديبيّة؛ وقيل كانت قبل الحديبيّة؛ حيث رجّح جماعة من أهل العلم أنّ المسلمين كانوا ملتزمين بصلح الحديبيّة تماماً؛ فلم يكن لهم التعرّض لعير قريش وهم في الصلح، لذا اختاروا القول بأنّ هذه السرّية وقعت قبل الصلح.[٣]


وقد اتجهت هذه السريّة إلى حي جهينة مما يلي ساحل البحر، والتي تبعد عن المدينة المنورة نحو خمس ليال؛ وسبب إرسال هذه السريّة كان لأجل استقبال عير لقريش كانت تحمل الطعام ونحوه؛ لكنّهم لم يلقوا منها شيئاً.[٤]


شرح الحديث

لمّا بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه السريّة؛ زوّدهم بجراب مملوء بالتمر؛ فكان أبو عبيدة -رضي الله عنه- أمير السريّة يعطيهم حبة حبة من التمر، فيلعقونها ويمصّونها كما يكون من فعل الصبيّ الصغير؛ حفاظاً عليها وزهداً بالطعام حتى لا ينفذ، ثم كانوا بعد ذلك يشربون عليها الماء فتكون طعامهم حتى نزول الليل،[٤]حتى نفذ ما عندهم من الزاد وأصابهم الجوع الشديد؛ فأكرمهم المولى -سبحانه- برزق من البحر.[٥]


وكان هذا الرّزق أنْ خرج لهم حوت العنبر من البحر على هيئة كثبان كبير، وسمّي بذلك لأنّ العنبر -الطيب المشموم- يخرج من أفواهها، وقيل من جوفها وبطنها، وقد كانت هذه السمكة الضخمة -تقدّر بخمسين ذراعاً-؛ فأذن أبو عبيدة للجيش أن يأكلوا منها، فأقاموا عليهم وهم ثلاثمائة رجل يأكلون منها مقدار شهر كامل، حتى شبعوا وسمنوا منها، ثم أخذوا يجمعون الدّهن والزيت منها، ويقطعون اللحم كحجم الثور الكبير، ويجففونه بالملح ويحفظونه ليرتحلوا به، كما أخذوا يقدّرون حجم هذا الحوت؛ فجاء أبو عبيدة بثلاثة عشر رجلاً وأجلسهم في عين هذا الحوت؛ فوسعتهم كلّهم.[٥]


ثم أخذ ضلعاً من أضلعه، وأقامه قِبالةَ أكبر بعير لهم مع ما يحمله من متاع؛ فمرّ هذا البعير مع حمولته من تحت هذا الضلع ولم يصله؛ كنايةً عن ضخامة حجمه، ثم حملوا معهم ما جمعوه من اللحم والدّهن، وانطلقوا به إلى المدينة المنورة، فلمّا وصلوا أخبروا النبي -صلى الله عليه وسلم- بما شاهدوه من حوت العنبر؛ فأخبرهم أنّ هذا رزق من الله -تعالى- رزقه إياهم، ثم سألهم إن كان معهم من لحم هذا الحوت ليأكل منه -صلى الله عليه وسلم-؛ إشارةً إلى جواز أكل ميتةً البحر، فأعطوه -صلى الله عليه وسلم- ممّا كان معهم من اللحم، فأكل منه.[٥]


ما يُستفاد من حديث العنبر

يمكن الاستنتاج من الحديث السابق عدّة أمور يمكن الاستفادة منها؛ وذلك على النحو الآتي:

  • استحباب اختيار أمير للجماعة المسلمة في السّفر وإنّ قلّ العدد؛ فإنّ ذلك أفضل وأكمل لقيادة أمرهم.
  • استحباب خلط الزاد ومشاركته مع الجماعة؛ ففيه تحقيقٌ للبركة وترسيخ لمعاني التعاون والتشارك.
  • إباحة أكل لحم ميتة البحر؛ بإقراره -صلى الله عليه وسلم-، وفعله.

المراجع

  1. ^ أ ب ت رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن جابر بن عبد الله ، الصفحة أو الرقم:1935، صحيح.
  2. ياسر الحمداني، موسوعة الرقائق والأدب، صفحة 2648-2650. بتصرّف.
  3. صفي الرحمن المباركفوري، منة المنعم في شرح صحيح مسلم، صفحة 306، جزء 3. بتصرّف.
  4. ^ أ ب محمد الأمين الهرري، الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، صفحة 330-331، جزء 20. بتصرّف.
  5. ^ أ ب ت بريك العمري، السرايا والبعوث النبوية حول المدينة ومكة، صفحة 119-121. بتصرّف.