الحديث الرابع من الأربعين النووية

إنّ الحديث الرابع من كتاب الأربعين نوويّة للإمام النووي؛ هو ما ثبت فيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنّه قال: (إنَّ أحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ في بَطْنِ أُمِّهِ أرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذلكَ، ثُمَّ يَكونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذلكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا، فيُؤْمَرُ بأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، ويُقَالُ له: اكْتُبْ عَمَلَهُ، ورِزْقَهُ، وأَجَلَهُ، وشَقِيٌّ أوْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فيه الرُّوحُ، فإنَّ الرَّجُلَ مِنكُم لَيَعْمَلُ حتَّى ما يَكونُ بيْنَهُ وبيْنَ الجَنَّةِ إلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عليه كِتَابُهُ، فَيَعْمَلُ بعَمَلِ أهْلِ النَّارِ، ويَعْمَلُ حتَّى ما يَكونُ بيْنَهُ وبيْنَ النَّارِ إلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عليه الكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بعَمَلِ أهْلِ الجَنَّةِ).[١][٢]


شرح الحديث الرابع من الأربعين النووية

مراحل تكون الجنين

يخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- في بداية هذا الحديث أنّ الإنسان يُجمع خلقه في بطن أمّه؛ أيّ في رحم أمّه، وإنّما ذكر البطن بالأعمّ وقصد الأخصّ، وقوله: (يُجْمَعُ خَلْقُهُ)؛ إشارة إلى حقيقة علميّة عظيمة؛ فالجمع يعني لمّ شمل المفترق، وضم الأعضاء والأجزاء على بعضها؛ فالإنسان مخلوق من نطفة صغيرة من جسم أبيه، يُجمع فيها كل ما يكون فيه من الصفات كما قال بعض العلماء؛ بدءاً من الشعرة وانتهاءً بالطول والقصر واللون ونحو ذلك.[٣]


ثمّ يتمّ الله -سبحانه- خلق هذا الإنسان مرحلةً بعد أخرى، فينتقل من كونه نطفة -وهي ماء الرجل ومنيّه- إلى أن يُصبح علقة، أيّ قطعة دم متعلقة بجدار الرحم، ثم يصير بعد ذلك مضغة، أيّ قطعة لحم صغيرة بقدر وحجم ما يُمضغ من الطعام.[٣]


وكل ذلك يكون بعد أن يلتقي ماء الرجل بإحدى البويضات الموجودة في رحم المرأة؛ فيحصل التلقيح، وينتج عن ذلك الحمل بإنسان جديد؛ يبقى في طوره الأول أربعين يوماً، ثم يبقى كذلك في طوره الثاني، فالثالث في ذات المقدار -أربعين يوماً-؛ وبعدها يُقدّر الله -تعالى- بحكمته وتمام علمه ما يكون لهذا الجنين، فيُنفخ فيه الروح بأمره -سبحانه-.[٣]


تقدير ما يكون للإنسان في حياته

بيّن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو الصادق المصدوق، الذي لا ينطق عن الهوى؛ في الجزء الثاني من الحديث أنّ مرحلة الكتابة والتقدير تسبق مرحلة النّفخ، وقد ذهب بعض أهل العلم أنّ هذا الترتيب إنّما هو ترتيب خبريّ لا زمنيّ؛ لئلا ينقطع سياق الحديث عن أطوار الجنين، وربما يكون ذلك -على حدّ تعبيرهم- من تصرّف الرواة ذاتهم؛ إذ ثبت في صحيح مسلم أنّ الكتابة والتقدير تكون بعد أربعين يوماً.[٤]


حيث صحّ في الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (... إذَا مَرَّ بالنُّطْفَةِ ثِنْتَانِ وَأَرْبَعُونَ لَيْلَةً، بَعَثَ اللَّهُ إلَيْهَا مَلَكًا، فَصَوَّرَهَا وَخَلَقَ سَمْعَهَا وَبَصَرَهَا، وَجِلْدَهَا وَلَحْمَهَا وَعِظَامَهَا، ثُمَّ قالَ: يا رَبِّ، أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ فَيَقْضِي رَبُّكَ ما شَاءَ، وَيَكْتُبُ المَلَكُ، ثُمَّ يقولُ: يا رَبِّ، أَجَلُهُ؟ فيَقولُ رَبُّكَ ما شَاءَ، وَيَكْتُبُ المَلَكُ، ثُمَّ يقولُ: يا رَبِّ، رِزْقُهُ؟ فَيَقْضِي رَبُّكَ ما شَاءَ، وَيَكْتُبُ المَلَكُ، ثُمَّ يَخْرُجُ المَلَكُ بالصَّحِيفَةِ في يَدِهِ، فلا يَزِيدُ علَى ما أُمِرَ وَلَا يَنْقُصُ).[٥][٤]


وإذا كان التقدير والكتابة؛ أخرج الله -سبحانه- من علم الغيب الذي اختصّ به لنفسه، لهذا الملك بعض الأمور المتعلقة بهذا الإنسان؛ مثل عمله، ورزقه، ووقت انتهاء أجله، وسعادته وشقاوته في هذه الحياة الدنيا؛ ولا ينبغي أن يُفهم من هذا الحديث أنّ على الإنسان الركون إلى الأقدار، والجلوس عن السعيّ والعمل؛ فالأقدار في علم الله -تعالى- وحده، بينما الأعمال علامات للخواتيم، فتكون هذه الخواتيم موافقة لعلم الله المسبق؛ لا أنّ تقديرها هو ما أوصله إلى هذا الحال من الشقاء أو الكفر أو الإيمان.[٤]


دخول النار ودخول الجنة

أشار النبي -صلى الله عليه وسلم- في ختام هذا الحديث أنّ مصير الإنسان وختامه يكون بما سبقه من الأعمال، حتى وإن خفت عن الناس ممن حوله؛ فقد يكون الإنسان صالحاً عابداً يعمل بعمل أهل الجنة؛ حتى إذا اقترب أجله، ولم يبقَ بينه وبين دخول الجنة إلا قليلاً؛ عمل هذا الإنسان بأعمال أهل النار التي أخفاها عن الناس، وسبق الكتاب بعلمها وفق علم الله -تعالى-، فيكون ذلك مانعاً له من دخول الجنة، ويكون مصيره إلى النار.[٦]


وكذلك العكس لمن ظهر عليه السوء، وعمل بأعمال أهل النار؛ ولكنّ باطنه مخالف لظاهره؛ فيعمل نتيجة لذلك بالأعمال الصالحة، التي تكون خواتيمه فيها؛ فيدخل الجنة، ويكون هذا موافقاً لعمل الله -سبحانه، ويدلّ على ذلك أيضاً ما ثبت في الحديث الصحيح: (... إنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بعَمَلِ أهْلِ الجَنَّةِ، فِيما يَبْدُو لِلنَّاسِ، وإنَّه لَمِنْ أهْلِ النَّارِ، ويَعْمَلُ بعَمَلِ أهْلِ النَّارِ، فِيما يَبْدُو لِلنَّاسِ، وهو مِن أهْلِ الجَنَّةِ).[٧][٦]

المراجع

  1. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عبد الله بن مسعود ، الصفحة أو الرقم:3208، صحيح.
  2. النووي، الأربعون النووية، صفحة 53.
  3. ^ أ ب ت عطية سالم، شرح الأربعين النووية، صفحة 5-6، جزء 15. بتصرّف.
  4. ^ أ ب ت خلدون نغوي، سبيل المهتدين إلى شرح الأربعين النووية، صفحة 63-66. بتصرّف.
  5. رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن عامر بن واثلة ، الصفحة أو الرقم:2645، صحيح.
  6. ^ أ ب ابن دقيق العيد، شرح الأربعين النووية، صفحة 38. بتصرّف.
  7. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن سهل بن سعد الساعدي، الصفحة أو الرقم:4207، صحيح.