نص حديث (ليس الشديد بالصرعة)

أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّه قال: (ليسَ الشَّدِيدُ بالصُّرَعَةِ، إنَّما الشَّدِيدُ الذي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ)،[١] وقد ثبت هذا الحديث بصيغٍ أخرى، ومنها قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: (... ما تَعُدُّونَ الصُّرَعَةَ فِيكُمْ؟ قالَ قُلْنا: الَّذي لا يَصْرَعُهُ الرِّجالُ، قالَ: ليْسَ بذلكَ، ولَكِنَّهُ الَّذي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ).[٢]


شرح حديث (ليس الشديد بالصرعة)

الغضب غريزةٌ من الغرائز الموجودة في طبع الإنسان، والنّاس يتفاوتون في شدّته ومبدئه وآثاره، ومنه الغضب المحمود ومنه المذموم، والحديث هنا يُركّز على اجتناب الغضب المذموم، ولذلك يُخبر النبي المصطفى -صلى الله عليه وسلم- أصحابه فيقول: "ليس الشديد بالصُّرعة"، والشديد في قوله هذا هو الشخص القوي في بدنه، والذي يستطيع مصارعة الرجال والتغلّب عليهم.[٣]


ويُقصد بالصرعة: الغلبة والفوز بالقِتال والمصارعة، فيكون المعنى: ليس القويّ الذي يُقاتل الأبطال فيغلبهم ويصرعهم، ثمّ قال النبي الكريم: "إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب"، فالذي يصرع الأبطال قويّ، ولكنّه ليس الشديد الموصوف في الحديث والذي يؤجر عند الله -تعالى-، بل هو الذي يستطيع كظم غيظه وإمساك نفسه عند الغضب.[٤]


ويعني ذلك أنّ الشديد في دينه هو الذي يصبر ويحلم ويتحكّم في نفسه عند دواعي الغضب، فلا يبطش ولا يثور، ولا يتكلّم كلاماً لا يرضي الله أو يؤذي غيره،[٥] وهذه من الصفات التي يُحبّها الله ورسوله، ولذلك كان النبي الكريم يوصي باجتناب الغضب في العديد من المواطن، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه-: (أنَّ رَجُلًا قالَ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أوْصِنِي، قالَ: لا تَغْضَبْ، فَرَدَّدَ مِرَارًا، قالَ: لا تَغْضَبْ).[٦]


الدروس المستفادة من حديث (ليس الشديد بالصرعة)

يُستفاد من هذا الحديث النبوي الشريف العديد من الحِكم والفوائد، ومن أبرزها ما يأتي:[٧]

  • ضبط النّفس عند الغضب والحلم وكظم الغيظ من أعظم الأدلة على قوة الشخصية.
  • يُمكن للإنسان أن يُدرّب نفسه على مقاومة الغضب وكظم النّفس، فلا يعني كوْن الغضب غريزة عدم استطاعة مقاومته، ولذلك رتّب الله -سبحانه- أجراً عظيماً لمن يكظم غيظه ويملك نفسه عند الغضب.
  • أهمّية تصحيح المفاهيم واستعمال أسلوب التشويق لفهم المعلومة، ويظهر ذلك في فصاحة النبي الكريم وتشويقه للسامعين بسؤالهم وتصويبه للمفاهيم الخاطئة، فيستنتج السامع أنّ ضبط الإنسان لنفسه عند اشتداد الغضب، وقهر غضبه بحلمه، وكَظم غيظه كالصُّرعة الذي يغلب الرجال ولا يغلبونه، بل وأعظم.
  • مجاهدة النّفس أشد من مجاهدة العدو، وهي من مكارم الأخلاق، ومَن يضبط نفسه عند الغضب يحميه الله -سبحانه- من العديد من المفاسد في دينه ودنياه.[٨]


ما يُعين على ضبط النفس عند الغضب

حثّ النبي -صلى الله عليه وسلم- على ضبط النّفس عند الغضب، وبيّن العديد من الوسائل المُعينة على ذلك، ولعلّ من أبرزها ما يأتي:[٩]

  • الاستعاذة بالله من الشيطان

ويدلّ على ذلك ما ثبت عن سليمان بن صرد -رضي الله عنه-، إذ قال: (كُنْتُ جَالِسًا مع النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ورَجُلَانِ يَسْتَبَّانِ، فأحَدُهُما احْمَرَّ وجْهُهُ، وانْتَفَخَتْ أوْدَاجُهُ، فَقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لو قالَهَا ذَهَبَ عنْه ما يَجِدُ، لو قالَ: أعُوذُ باللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، ذَهَبَ عنْه ما يَجِدُ).[١٠]


  • السكوت وعدم التعجّل بالكلام

ويدلّ على ذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إذا غضب أحدكم فليسكت).[١١]


  • تغيير الهيئة

ويدلّ على ذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إذا غضبَ أحدُكم وهو قائمٌ فلْيجلسْ، فإن ذهبَ عنه الغضبُ وإلاَّ فلْيَضْطَجِعْ).[١٢]

المراجع

  1. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم:6114، صحيح.
  2. رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن عبد الله بن مسعود، الصفحة أو الرقم:2608، صحيح.
  3. عبد المحسن العباد، شرح الأربعين النووية، صفحة 12، جزء 19. بتصرّف.
  4. أحمد حطيبة، شرح رياض الصالحين، صفحة 17، جزء 50. بتصرّف.
  5. عبد القادر شيبة الحمد، فقه الإسلام (شرح بلوغ المرام)، صفحة 227، جزء 10. بتصرّف.
  6. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم:6116، صحيح.
  7. "شرح حديث (ليس الشديد بالصرعة)"، الدرر السنية، اطّلع عليه بتاريخ 14/6/2023. بتصرّف.
  8. عبد القادر الحمد، فقه الإسلام (شرح بلوغ المرام)، صفحة 228، جزء 10. بتصرّف.
  9. "علاج الغضب"، الإسلام سؤال وجواب، اطّلع عليه بتاريخ 14/6/2023. بتصرّف.
  10. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن سليمان بن صرد، الصفحة أو الرقم:3282، صحيح.
  11. رواه أحمد، في المسند، عن عبد الله بن عباس، الصفحة أو الرقم:2136، صححه الألباني.
  12. رواه أبو داود، في سنن أبي داود، عن أبي ذر الغفاري، الصفحة أو الرقم:4782، صححه الألباني.