حديث (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)
أخرج الإمام أحمد في مسنده، والإمام الترمذي في سننه، عن الحسن بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنهما وأرضاهما- أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (دع ما يَريبكَ إلى ما لا يَريبُكَ، فإنَّ الصِّدقَ طُمأنينةٌ وإنَّ الكذبَ رِيبةٌ)،[١] وفي رواية أخرى: (... فإنَّ الخيرَ طُمأنينةٌ، وإنَّ الشَّرَّ ريبةٌ).[٢]
شرح حديث (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)
ضابط استحسان الأفعال واستقباحها
بيّن النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث أنّ الضابط لمعرفة الأفعال الحسنة من الأفعال القبيحة، ومعرفة الحلال من الحرام إذا اختلطا، كل ذلك يكون بالريبة -أيّ بالشكّ- أو بالاطمئنان؛ وهذا لا يقدر عليه إلا أصحاب النفوس المؤمنة التقيّة السويّة، التي تتحلى بالعدالة والقدرة على التفريق بين هذه الأفعال باتزان ومعرفة.[٣]
يقول المناويّ في هذا: "... وَهَذَا مَخْصُوصٌ بِذَوِي اَلنُّفُوسَ اَلشَّرِيفَةَ اَلْقُدْسِيَّةَ اَلْمُطَهَّرَةَ عَنْ دَنَسِ اَلذُّنُوبِ وَوَسَخِ اَلْعُيُوبِ، وَالْحَاصِل أَنَّ اَلصِّدْقَ إِذَا مَازِج قَلْبِ اَلْكَامِلِ اِمْتَزَجَ نُورُهُ بِنُورِ اَلْإِيمَانِ فاطْمَأَنَّ وَانْطَفَأَ سِرَاجْ اَلْكَذِبِ، فَإِنَّ اَلْكَذِبَ ظُلْمَةً وَالظّلَمَة لَا تَمَازُجَ اَلنُّورِ".[٤]
اتباع الحقّ واجتناب الباطل
يُرشد النبي -صلى الله عليه وسلم- على المعنى الظاهر من هذا الحديث إلى اجتناب الشبهات واتقاء الوقوع فيها؛ فإذا شكّ المؤمن في شيء تركه، وانتقل إلى غيره مما تطمئن إليه نفسه؛ إذ إنّ ارتياب الشيء إشارة إلى كونه باطلاً أو شراً؛ فيجب الحذر منه وتركه، وأما الاطمئنان إلى شيء آخر فيكون دلالة على كونه حقاً وصدقاً وخيراً، عندها يجب الاستمساك والعمل به.[٣]
ولقد أشار بعض أهل العلم إلى سبب ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- للكذب والصدق في هذا الحديث؛ فقالوا إنّ ذلك لتقريب وزيادة توضيحٍ لمعنى الشكّ والريبة، والطمأنينة والراحة؛ فكما يخلق الكذب في النفس الضيق، وعدم الشعور بالارتياح؛ كذلك الشكّ في عملٍ ما، وكما يخلق الصدق الراحة والطمأنينة في النفس، فكذلك يكون عدم الارتياب من عملٍ ما، وتحصيل ذلك أن الارتياب مظنّة بطلان العمل أو الاشتباه فيه، بينما يكون السكون والاطمئنان على عكس ذلك.[٥]
ومن الجدير بالذكر أنّ مثل هذه الأحاديث التي تحثّ على استقصاء الحقّ وتتبع مواطن الطمأنينة تعدّ قاعدة مهمة من قواعد الدين؛ إذ إنّ الورع الذي هو أساس اليقين، وراحة النفس من ظلمة الشكوك والكذب في الأقوال والأفعال، هو أصل من أصول هذا الدين الحنيف.[٦]
ما يرشد إليه الحديث
بعد النظر في شرح هذا الحديث والمقصود منه، يمكن استنتاج بعض الأمور التي يدعو إليها النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله هذا بالنقاط الآتية:
- ترك الشكّ مدعاة للراحة والسكون.
- الطمأنينة تريح النفس، ويستقرّ بها القلب.
- التورّع في العبادات، والأفعال، والأقوال، والمعاملات؛ بترك الارتياب وما يُثير القلق بالنفس.
- صلاح المؤمن هو الضابط للعمل بهذا الحديث؛ إذ إنّ نقاء السريرة والاستقامة تعينان على التمييز بين الأمور الحسنة والأمور السيئة.
- الكذب يدعو للضيق والاضطراب، بينما يدعو الصدق للسكينة والارتياح.
المراجع
- ↑ رواه الإمام أحمد، في المسند، عن الحسن بن علي بن أبي طالب، الصفحة أو الرقم:1723، صححه المنذري وابن الملقن وابن حجر.
- ↑ رواه الحاكم، في المستدرك على الصحيحين، عن الحسن بن علي بن أبي طالب، الصفحة أو الرقم:2202، صحيح.
- ^ أ ب عبد الحق الدهلوي، لمعات التنقيح في شرح مشكاة المصابيح، صفحة 503، جزء 5. بتصرّف.
- ↑ عبد الرؤوف المناوي، فيض القدير، صفحة 529، جزء 3.
- ↑ خلدون نغوي، سبيل المهتدين إلى شرح الأربعين النووية، صفحة 298. بتصرّف.
- ↑ الصنعاني، التنوير شرح الجامع الصغير، صفحة 103، جزء 6. بتصرّف.