حديث (أحب الأعمال إلى الله)

ثبت في صحيح البخاري، عن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها-، أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (سَدِّدُوا وقارِبُوا، واعْلَمُوا أنْ لَنْ يُدْخِلَ أحَدَكُمْ عَمَلُهُ الجَنَّةَ، وأنَّ أحَبَّ الأعْمالِ إلى اللَّهِ أدْوَمُها وإنْ قَلَّ)،[١] وفي رواية أخرى عند مسلم: (... يا أَيُّهَا النَّاسُ علَيْكُم مِنَ الأعْمَالِ ما تُطِيقُونَ، فإنَّ اللَّهَ لا يَمَلُّ حتَّى تَمَلُّوا، وإنَّ أَحَبَّ الأعْمَالِ إلى اللهِ ما دُووِمَ عليه، وإنْ قَلَّ).[٢]


شرح حديث (أحب الأعمال إلى الله)

مناسبة الحديث

كان للنبي -صلى الله عليه وسلم- حصير يفترشه بالنهار؛ فيجلس عليه، ثم يحبسه في الليل ليصلي عليه، حتى يُكثر من ذلك؛ فقام جماعة من الناس بالاقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فيُصلّون بالليل بقدر صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم-.[٣]


ولمّا خشي عليهم النبي -صلوات الله عليه- من المشقة، وترك العمل، والسآمة -الملل- منه؛ أخبرهم بأنّ أحب الأعمال إلى المولى -عز وجل- المداوم عليها، التي يتعاهدها المسلم، وإن قلّت.[٣]


(سددوا وقاربوا)

وجّه النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه في هذا الحديث بقصد السداد؛ وهو الصواب؛ أيّ اعملوا واسعوا، واقصدوا الأمر الصواب في أعمالكم؛ بإخلاص النيّة، واتباع السنّة، ونحوها من الأمور التي يترتب عليها قبول العمل.[٤]


أمّا المقصود بالمقاربة هنا؛ فهي الاعتدال وعدم التفريط؛ بأن يُتعب المسلم نفسه بمشقة زائدة، ويُحمّل نفسه من الطاعات ما لا يُطيق؛ فيُؤدي ذلك إلى الملل، وترك العمل، وانقطاع الأجر المترتب عليه.[٤]


(لن يُدخل أحدكم عمله الجنة)

بيّن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنّ المسلم مع اجتهاده وعمله، وسعيّه لتحصيل الأجر والثواب، وطلبه لرضا الله -تعالى-؛ مع ذلك كلّه، فإنّه لن يدخل الجنّة بهذا العمل؛ بل برحمة الله -تعالى-، وفضله.[٥]


حتى إنّ بعض أهل العلم جمعوا بين هذا الجزء من الحديث، وبين قوله -تعالى-: (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)؛[٦] إذ إنّ الباء في (بما) تفيد الإلصاق؛ وقيل إنّ المراد أنّ الجنة التي يورثها المؤمنون كان استحقاقها بفضل من الله -تعالى-، إلا أنّ الدرجات في هذه الجنة تتفاوت بسبب أعمالهم وسعيهم في الدنيا.[٥]


ومما يدل على هذا المعنى ما ثبت في الحديث الصحيح، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، أنّه قال: (لَنْ يُنَجِّيَ أحَدًا مِنكُم عَمَلُهُ، قالوا: ولا أنْتَ يا رَسولَ اللَّهِ؟ قالَ: ولا أنا، إلَّا أنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ برَحْمَةٍ...)؛[٧] ومعلوم أنّ أجر النبي -صلى الله عليه وسلم- في الطاعات أعظم، وعمله في العبادة أقوم، ومع ذلك فإنّه نسب الفضل في دخول الجنة إلى الله -تعالى- وإلى رحمته.[٤]


(إنّ الله لا يمل حتى تملوا)

ذكر أهل العلم معنى قوله -صلى الله عليه وسلم- بأنّ الله -تعالى- لا يملّ حتى يملّ العباد؛ فالمقصود بذلك أنّ المولى -عزّ شأنه- لا يمل من إعطاء الثواب والأجر على الأعمال، حتى يملّ العبد من فعل الطاعة، فينصرف عنها، ويقطع عن نفسه أجرها.[٨]


يقول ابن عبد البر في هذا: "... لَا يَسْأَمُ مِنْ أَفْضَالِهِ عَلَيْكُمْ إِلَّا بِسَآمَتِكُمْ عَنِ الْعَمَلِ..."، والسآمة والملل تحصل -كما ذكرنا- بإلزام النفس من العبادات ما لا تُطيق، فالأولى المحافظة والمداومة على القدر اليسير منها، فيكون تعاهدها أنفع وأكمل.[٨]

المراجع

  1. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عائشة أم المؤمنين، الصفحة أو الرقم:6464، صحيح.
  2. رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن عائشة أم المؤمنين، الصفحة أو الرقم:782، صحيح.
  3. ^ أ ب حسن بن علي الفيومي، فتح القريب المجيب على الترغيب والترهيب، صفحة 516، جزء 12. بتصرّف.
  4. ^ أ ب ت القسطلاني، شرح القسطلاني إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، صفحة 266، جزء 9. بتصرّف.
  5. ^ أ ب شمس الدين البرماوي، اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح، صفحة 495، جزء 15. بتصرّف.
  6. سورة الزخرف، آية:72
  7. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم:6463، صحيح.
  8. ^ أ ب ابن عبد البر، الاستذكار، صفحة 87، جزء 2. بتصرّف.