صحة حديث الجساسة

أخرج الإمام مسلم في صحيحه حديث الجسّاسة؛ من طريق فاطمة بنت قيس -رضي الله عنها-، أخت الضحّاك بن قيس -رضي الله عنه-؛ وهي صحابيّة من المهاجرات الأُوَل، أنّ عامر بن شراحيل الشعبيّ، جاء إلى فاطمة بنت قيس -رضي الله عنهما-، وطلب منها أن تحدّثه بحديث سمعته من النبي -صلى الله عليه وسلم-، ليس بينها وبين روايته عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أحد غيرها؛ فأخبرته بهذا الحديث الصحيح الثابت عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.[١]


حديث الجساسة

يُقصد بالجسّاسة الدابة التي تتجسس لتنقل الأخبار للمسيح الدّجال،[٢] وقيل الدابة التي تجسّ الأخبار؛ أيّ تلتمسها،[٣] وقد جاء في هذا الحديث ذكر وصفها، وإخبارها عن عدد من الأمور الغيبيّة التي ستكون في آخر الزمان، وسبق ذلك كلّه ذكر قصة فاطمة بنت قيس -رضي الله عنها-، وقصة زواجها من غير واحد من الصحابة -رضوان الله عليهم-، ونفصّل في ذلك على نحوٍ متسلسلٍ بالآتي:


قصة فاطمة بنت قيس

عن فاطمة بنت قيس -رضي الله عنها- أنّها قالت: (... نَكَحْتُ ابْنَ المُغِيرَةِ، وَهو مِن خِيَارِ شَبَابِ قُرَيْشٍ يَومَئذٍ، فَأُصِيبَ في أَوَّلِ الجِهَادِ مع رَسولِ اللهِ، فَلَمَّا تَأَيَّمْتُ خَطَبَنِي عبدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ في نَفَرٍ مِن أَصْحَابِ رَسولِ اللهِ، وَخَطَبَنِي رَسولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ- علَى مَوْلَاهُ أُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ، وَكُنْتُ قدْ حُدِّثْتُ، أنَّ رَسولَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ- قالَ: مَن أَحَبَّنِي فَلْيُحِبَّ أُسَامَةَ...).


وتكمل فاطمة -رضي الله عنها- فتقول: (... فَلَمَّا كَلَّمَنِي رَسولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ-، قُلتُ: أَمْرِي بيَدِكَ، فأنْكِحْنِي مَن شِئْتَ، فَقالَ: انْتَقِلِي إلى أُمِّ شَرِيكٍ، وَأُمُّ شَرِيكٍ امْرَأَةٌ غَنِيَّةٌ مِنَ الأنْصَارِ، عَظِيمَةُ النَّفَقَةِ في سَبيلِ اللهِ، يَنْزِلُ عَلَيْهَا الضِّيفَانُ، فَقُلتُ: سَأَفْعَلُ، فَقالَ: لا تَفْعَلِي، إنَّ أُمَّ شَرِيكٍ امْرَأَةٌ كَثِيرَةُ الضِّيفَانِ؛ فإنِّي أَكْرَهُ أَنْ يَسْقُطَ عَنْكِ خِمَارُكِ، أَوْ يَنْكَشِفَ الثَّوْبُ عن سَاقَيْكِ، فَيَرَى القَوْمُ مِنْكِ بَعْضَ ما تَكْرَهِينَ، وَلَكِنِ انْتَقِلِي إلى ابْنِ عَمِّكِ عبدِ اللهِ بنِ عَمْرِو ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَهو رَجُلٌ مِن بَنِي فِهْرٍ؛ فِهْرِ قُرَيْشٍ، وَهو مِنَ البَطْنِ الَّذي هي منه، فَانْتَقَلْتُ إلَيْهِ...).


جمع النبي للناس

تخبر فاطمة -رضي الله عنها- أنّها لمّا انقضت عدّتها سمعت منادي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعو للصلاة جماعة؛ فخرجت فاطمة بنت قيس -رضي الله عنها-، وصلّت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في المسجد، وقد كانت في الصفّ الأول من النساء، والذي يلي الرجال من القوم.


ولمّا انقضت الصلاة جلس النبي -صلى الله عليه وسلم- على منبره، وهو يضحك ويقول: (... لِيَلْزَمْ كُلُّ إنْسَانٍ مُصَلَّاهُ، ثُمَّ قالَ: أَتَدْرُونَ لِمَ جَمَعْتُكُمْ؟ قالوا: اللَّهُ وَرَسولُهُ أَعْلَمُ، قالَ: إنِّي وَاللَّهِ ما جَمَعْتُكُمْ لِرَغْبَةٍ وَلَا لِرَهْبَةٍ، وَلَكِنْ جَمَعْتُكُمْ لأنَّ تَمِيمًا الدَّارِيَّ كانَ رَجُلًا نَصْرَانِيًّا، فَجَاءَ فَبَايَعَ وَأَسْلَمَ، وَحدَّثَني حَدِيثًا وَافَقَ الَّذي كُنْتُ أُحَدِّثُكُمْ عن مَسِيحِ الدَّجَّالِ...).


خبر تميم الداري مع الجساسة

يُكمل النبي -صلى الله عليه وسلم- حديثه للناس عن خبر تميم الداريّ -رضي الله عنه-، وما شاهده قبل إسلامه من أمر هذه الدّابة المسمّاة بالجسّاسة؛ فيقول -صلى الله عليه وسلم-: (... حدَّثَني -يعني تميم الداريّ- أنَّهُ رَكِبَ في سَفِينَةٍ بَحْرِيَّةٍ مع ثَلَاثِينَ رَجُلًا مِن لَخْمٍ وَجُذَامَ، فَلَعِبَ بهِمِ المَوْجُ شَهْرًا في البَحْرِ، ثُمَّ أَرْفَؤُوا إلى جَزِيرَةٍ في البَحْرِ حتَّى مَغْرِبِ الشَّمْسِ، فَجَلَسُوا في أَقْرُبِ السَّفِينَةِ، فَدَخَلُوا الجَزِيرَةَ، فَلَقِيَتْهُمْ دَابَّةٌ أَهْلَبُ كَثِيرُ الشَّعَرِ، لا يَدْرُونَ ما قُبُلُهُ مِن دُبُرِهِ؛ مِن كَثْرَةِ الشَّعَرِ، فَقالوا: وَيْلَكِ! ما أَنْتِ؟ فَقالَتْ: أَنَا الجَسَّاسَةُ...).


حقيقة الجساسة

لمّا تعجّب القوم من هذه الدّابة، واستنكروا مظهرها لكثرة شعرها، وغرابة شكلها، وتكليمها لهم؛ فسألوها عن حقيقتها؛ ظنّاً منهم أنّها قد تكون شيطانة، فقالوا لها: (... وَما الجَسَّاسَةُ؟ قالَتْ: اعْمِدُوا إلى هذا الرَّجُلِ في الدَّيْرِ؛ فإنَّه إلى خَبَرِكُمْ بالأشْوَاقِ، فأقْبَلْنَا إلَيْكَ سِرَاعًا، وَفَزِعْنَا منها، وَلَمْ نَأْمَن أَنْ تَكُونَ شيطَانَةً...).


مقابلة القوم للدجال

أسرع القوم بعد حديثهم مع الجسّاسة إلى الرجل الذي يمكث في الكهف؛ ليعلموا حقيقة هذه الدّابة، ويفهموا ما هم فيه من الأمر، فلمّا وصلوا إليه أخذ يسألهم وهم يجبونه؛ فكان من ذلك قوله: (... أَخْبِرُونِي عن نَخْلِ بَيْسَانَ، قُلْنَا: عن أَيِّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ؟ قالَ: أَسْأَلُكُمْ عن نَخْلِهَا؛ هلْ يُثْمِرُ؟ قُلْنَا له: نَعَمْ، قالَ: أَمَا إنَّه يُوشِكُ أَنْ لا تُثْمِرَ، قالَ: أَخْبِرُونِي عن بُحَيْرَةِ الطَّبَرِيَّةِ، قُلْنَا: عن أَيِّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ؟ قالَ: هلْ فِيهَا مَاءٌ؟ قالوا: هي كَثِيرَةُ المَاءِ، قالَ: أَمَا إنَّ مَاءَهَا يُوشِكُ أَنْ يَذْهَبَ...).


ويستمرّ الدجال في سؤاله واستعلامه عن بعض الأمور؛ فيقول: (... أَخْبِرُونِي عن عَيْنِ زُغَرَ، قالوا: عن أَيِّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ؟ قالَ: هلْ في العَيْنِ مَاءٌ؟ وَهلْ يَزْرَعُ أَهْلُهَا بمَاءِ العَيْنِ؟ قُلْنَا له: نَعَمْ، هي كَثِيرَةُ المَاءِ، وَأَهْلُهَا يَزْرَعُونَ مِن مَائِهَا، قالَ: أَخْبِرُونِي عن نَبِيِّ الأُمِّيِّينَ ما فَعَلَ؟ قالوا: قدْ خَرَجَ مِن مَكَّةَ وَنَزَلَ يَثْرِبَ، قالَ: أَقَاتَلَهُ العَرَبُ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، قالَ: كيفَ صَنَعَ بهِمْ؟ فأخْبَرْنَاهُ أنَّهُ قدْ ظَهَرَ علَى مَن يَلِيهِ مِنَ العَرَبِ وَأَطَاعُوهُ، قالَ لهمْ: قدْ كانَ ذلكَ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، قالَ: أَمَا إنَّ ذَاكَ خَيْرٌ لهمْ أَنْ يُطِيعُوهُ...).


تعريف الدجال عن نفسه

بعد أن سأل الدجال القوم عن عدّة علامات تدل على قرب خروجه، واقتراب آخر الزمان في هذه الدنيا؛ كشف لهم عن أمره، وأخبرهم أنّه الدّجال؛ والذي سيُجري الله -تعالى- على يديه عدداً من خوارق الأمور، حين يُؤذن له بالخروج؛ وفي ذلك يقول الدّجال: (... وإنِّي مُخْبِرُكُمْ عَنِّي؛ إنِّي أَنَا المَسِيحُ، وإنِّي أُوشِكُ أَنْ يُؤْذَنَ لي في الخُرُوجِ، فأخْرُجَ، فأسِيرَ في الأرْضِ فلا أَدَعَ قَرْيَةً إلَّا هَبَطْتُهَا في أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، غيرَ مَكَّةَ وَطَيْبَةَ؛ فَهُما مُحَرَّمَتَانِ عَلَيَّ كِلْتَاهُمَا، كُلَّما أَرَدْتُ أَنْ أَدْخُلَ وَاحِدَةً -أَوْ وَاحِدًا- منهما اسْتَقْبَلَنِي مَلَكٌ بيَدِهِ السَّيْفُ صَلْتًا، يَصُدُّنِي عَنْهَا، وإنَّ علَى كُلِّ نَقْبٍ منها مَلَائِكَةً يَحْرُسُونَهَا...).


تأكيد النبي على حرمة مكة والمدينة

لمّا انتهى النبي -صلى الله عليه وسلم- من خبر الجسّاسة، وما كان من خبر الدّجال؛ صرب منبره بالعصاة تبيهاً للسامعين، وتأكيداً على أهميّة ما سيُخبر به؛ ثم قال -صلى الله عليه وسلم-: (... هذِه طَيْبَةُ، هذِه طَيْبَةُ، هذِه طَيْبَةُ -يَعْنِي المَدِينَةَ- أَلَا هلْ كُنْتُ حَدَّثْتُكُمْ ذلكَ؟ فَقالَ النَّاسُ: نَعَمْ. فإنَّه أَعْجَبَنِي حَديثُ تَمِيمٍ؛ أنَّهُ وَافَقَ الَّذي كُنْتُ أُحَدِّثُكُمْ عنْه، وَعَنِ المَدِينَةِ وَمَكَّةَ، أَلَا إنَّه في بَحْرِ الشَّأْمِ أَوْ بَحْرِ اليَمَنِ، لا، بَلْ مِن قِبَلِ المَشْرِقِ ما هُوَ، مِن قِبَلِ المَشْرِقِ ما هو، مِن قِبَلِ المَشْرِقِ ما هو، وَأَوْمَأَ بيَدِهِ إلى المَشْرِقِ...).[٤]

المراجع

  1. عيسى النعمي، دفع دعوى المعارض العقلي عن الأحاديث المتعلقة بمسائل الاعتقاد، صفحة 456. بتصرّف.
  2. عبد المحسن العباد، شرح سنن أبي داود للعباد، صفحة 24، جزء 487. بتصرّف.
  3. يوسف الوابل، أشراط الساعة، صفحة 409. بتصرّف.
  4. رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن فاطمة بنت قيس، الصفحة أو الرقم:2942، صحيح.