حديث (يكفرن العشير...)

أخرج البخاري في صحيحه، عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنه-، أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (... أُرِيتُ النَّارَ فَإِذَا أكْثَرُ أهْلِهَا النِّسَاءُ، يَكْفُرْنَ، قيلَ: أيَكْفُرْنَ باللَّهِ؟ قالَ: يَكْفُرْنَ العَشِيرَ، ويَكْفُرْنَ الإحْسَانَ، لو أحْسَنْتَ إلى إحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ، ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شيئًا، قالَتْ: ما رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ).[١]


وفي رواية أخرى: (... وأُرِيتُ النَّارَ، فَلَمْ أرَ مَنْظَرًا كَاليَومِ قَطُّ أفْظَعَ، ورَأَيْتُ أكْثَرَ أهْلِهَا النِّسَاءَ قالوا: بمَ يا رَسولَ اللَّهِ؟ قالَ: بكُفْرِهِنَّ قيلَ: يَكْفُرْنَ باللَّهِ؟ قالَ: يَكْفُرْنَ العَشِيرَ...).[٢]


شرح حديث (يكفرن العشير...)

مناسبة الحديث

يُبيّن عبد الله بن عباس -رضي الله عنه- المناسبة التي وقعت في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكانت سبباً لذكر ما في هذا الحديث؛ من الحديث عن الجنّة، وعن النار وأهلها ونسائها؛ إذ ثبت أنّ الشمس قد كُسفت في ذلك الوقت، فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- وصلّى بالمسلمين صلاة الكسوف؛ موضحاً كيفيتها وأحكامها؛ فلمّا انتهى النبي -صلى الله عليه وسلم- جاءه الصحابة -رضوان الله عليهم- يسألونه عن سبب تراجعه إلى الوراء في صلاته، فأخبرهم -صلى الله عليه وسلم- بما رآه.[٣]


وكان ذلك أنْ عُرضت له الجنّة، ودنت منه؛ حتى كاد يُصيب عنقوداً من عناقيد ثمارها؛ ولقد تعددت أقوال أهل العلم في هذا القرب والدنوّ؛ فقيل إنّما دنت الجنة منه -صلى الله عليه وسلم- على حقيقتها، وطويت المسافة بينها وبينه -صلى الله عليه وسلم-؛ وهو ما يدلّ عليه ظاهر الحديث، وقيل إنّما مُثلت له -صلى الله عليه وسلم- على هيئتها بصورة على الجدار، فكانت أشبه بتمثيل المرآة وانعكاسها للحقيقة.[٣]


أكثر أهل النار من النساء

ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- لصحابته -رضوان الله عليهم- في هذا الحديث أنّه رأى النّار كما رأى الجنّة؛ وقد ظهرت له بأقبح وأبشع المظاهر؛ ثم أخبرهم -صلى الله عليه وسلم- بأنّه رأى أكثر أهلها من النساء؛ وعللّ النبي -صلوات الله عليه- أنّ ذلك بسبب كفرهنّ؛ فسأله الصحابة إنْ كان لكفرهنّ بالله -تعالى-، فقال لهم بأنّ كفرهنّ ليس بالله -تعالى-، إنّما بشيء آخر.[٣]


ويمكن بيان الأسباب التي ذكرها النبي -صلى الله عليه وسلم- في تعليل كثرة أهل النار من النساء على النحو الآتي:


  • (يكفرن العشير)

إنّ العشير المقصود في هذا الحديث هو الزوج؛ وسمي عشيراً لأنّه يعاشر زوجته، كما سمّي حليلاً؛ لأنّها يُحلل لها، ويُحالها في موضع واحد؛ كما تُسمّى المرأة بسبب ذلك حليلة الرجل؛[٤] ومعنى كفر العشير لا الكفر بذاته؛ إنّما تغطيته وجحوده،[٥] وقد صنّف أهل العلم كفران العشير من الكفر الأصغر؛ الذي لا ينقض الإيمان، ولا يستحقّ الخلود في النار، ولا يسلب صاحبه صفة الإسلام؛ إنّما يوجب العذاب، مع استحقاق من يقع فيه شفاعة الشافعين.[٦]


  • (يكفرن الإحسان)

وضحّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كيفيّة جحود المرأة لإحسان زوجها إليها؛ بأنّها إن أحسن إليها زوجها عمراً طويلاً، ثم رأت منه ما يُخالف هواها، أنكرت كل ما كان منه سابقاً؛ كمن يسمح لها زوجها بالخروج والدخول كما شاءت، فإن منعها زوجها مرةً من ذلك استنكرتْ وغضبتْ.[٧]


وربّما ادّعت أنّها حبيسة البيت طوال الوقت، وكذلك تفعل كثير من النساء؛ ممّن يُنفق عليها زوجها، ويسخى بالمال والعطاء؛ فإن منعها شيئاً مسحت كلّ إحسانه وكرمه، وادّعت بخله وتقتيره عليها.[٧]


ما يُستفاد من الحديث

يمكن الإشارة إلى عدد من الفوائد الحسنة التي دلّ عليها هذا الحديث الشريف؛ والتي يمكن تلخيصها بالآتي:

  • ينبغي للمرأة التنبّه إلى عدم التهاون بمثل هذه الأمور -كفران الإحسان والعشير-؛ لأنّ ذلك مدعاة للتهاون بحق الله -عز وجل- الذي بيّن عظم حقّ الزوج على زوجته، وأمر بطاعته؛ وقد بلغ أقصى مبلغ؛ بدلالة قوله -صلى الله عليه وسلم-: (... لَو كنتُ آمرًا أحدًا أن يسجدَ لأحدٍ؛ لأمرتُ النِّساءَ أن يسجُدنَ لأزواجِهِنَّ؛ لما جعلَ اللَّهُ لَهُم علَيهنَّ منَ الحقِّ).[٨][٩]


  • إنّ كفر العشير والإحسان إصرار على كفر النعمة، والإصرار على ذلك موجب للعذاب، وفي هذا تحذير للنساء اللواتي يقع منهنّ أعظم من هذا الذنب؛ كمن يتركن الفروض، ويتعرّضن لأعراض الناس بالقذف والسباب، ونحو ذلك من كبائر الذنوب.[١٠]


  • إنّ كفران العشير قد يقع من الرجال أيضاً؛ ولكنّه في النساء أكثر وأغلب؛ لكثرة تشكيهنّ وكثرة كلامهنّ، وقد قال بعض أهل العلم أنّ هذا أيضاً لا يعمم على النساء كلهنّ؛ فمن النساء من يتصفن بحسن الخُلق؛ من التقوى والوفاء والإحسان؛ لذا قالوا إنّ هذا الكفران "خاصٌ لفظاً، عامٌ معنى".[١١]


  • الواجب على المرأة مقابلة الإحسان بالإحسان، والفضل بالفضل، والخير بالخير؛ فإن غضبت من زوجها، ونكرت له ما قدّمه من برّ وإحسان؛ وجب عليها المسارعة في التوبة والاستغفار.

المراجع

  1. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عبد الله بن عباس، الصفحة أو الرقم:29، صحيح.
  2. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عبد الله بن عباس، الصفحة أو الرقم:1052، صحيح.
  3. ^ أ ب ت الساعاتي، أحمد بن عبد الرحمن، الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، صفحة 203-206، جزء 6. بتصرّف.
  4. الخطابي، أعلام الحديث (شرح صحيح البخاري)، صفحة 2004، جزء 3. بتصرّف.
  5. السندي، محمد بن عبد الهادي، حاشية السندي على سنن النسائي، صفحة 148، جزء 3. بتصرّف.
  6. عبد الله بن عبد الحميد الأثري، الإيمان حقيقته، خوارمه، نواقضه عند أهل السنة والجماعة، صفحة 249-250. بتصرّف.
  7. ^ أ ب عبد الكريم الخضير، شرح الموطأ، صفحة 16، جزء 33. بتصرّف.
  8. رواه أبو داود، في سنن أبي داود، عن قيس بن سعد، الصفحة أو الرقم:2140، صححه الألباني.
  9. محمد الأمين الهرري، شرح سنن ابن ماجه للهرري مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه، صفحة 127-128، جزء 24. بتصرّف.
  10. السفاريني، كشف اللثام شرح عمدة الأحكام، صفحة 209-210، جزء 3. بتصرّف.
  11. بكر البعداني (28/11/2014)، "كفران العشير تنبيهات وفوائد"، الألوكة، اطّلع عليه بتاريخ 15/5/2023. بتصرّف.